كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال الفراء: هو على أربعة أقسام، أحدها: ما يحسن الوقف عليه ويحسن الابتداء به.
والثاني: ما يحسن الوقف عليه ولا يحسن الابتداء به، والثالث: ما يحسن الابتداء به ولا يحسن الوقف عليه، والرابع: ما لا يحسن فيه شيء من الأمرين، أما القسم الأول ففي عشرة مواضع ما نحن فيه وقوله تعالى: {لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزًّا كَلاَّ} [مريم: 81، 82] وقوله سبحانه: {لَعَلّى أَعْمَلُ صالحا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ} [المؤمنون: 100] وقوله عز وجل: {الذين أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاء كَلاَّ} [سبأ: 27] وقوله تبارك وتعالى: {أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلاَّ} [المعارج: 38، 39] وقوله جل وعلا: {أَنْ أَزِيدَ كَلاَّ} [المدثر: 15، 16] وقوله عز اسمه: {صُحُفًا مُّنَشَّرَةً كَلاَّ} [المدثر: 52، 53] وقوله سبحانه وتعالى: {رَبّى أَهَانَنِ كَلاَّ} [الفجر: 16، 17] وقوله تبارك اسمه: {أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلاَّ} [الهمزة: 3، 4] وقوله تعالى شأنه: {ثُمَّ يُنْجِيه كَلاَّ} [المعارج: 14، 15] فمن جعله في هذه المواضع ردًا لما قبله وقف عليه ومن جعله بمعنى ألا التي للتنبيه أو بمعنى حقًا ابتدأ به وهو يحتمل ذلك فيها، وأما القسم الثاني ففي موضعين قوله جل جلاله حكاية {فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ قَالَ كَلاَّ} [الشعراء: 14، 15] وقوله عز شأنه: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ} [الشعراء: 61، 62] وأما الثالث ففي تسعة عشر موضعًا قوله تعالى شأنه: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} [المدثر: 54] {كَلاَّ والقمر} [المدثر: 32] {كَلاَّ بَلْ تُكَذّبُونَ بالدين} [الانفطار: 9] {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقى} [القيامة: 26] {كَلاَّ لاَ وَزَرَ} [القيامة: 11] {كُلاٌّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة} [القيامة: 20] {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} [النبأ: 4] {كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس: 23] {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ} [المطففين: 14] {كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم} [الفجر: 17] {كَلاَّ إِنَّ كتاب الفجار} [المطففين: 7] {كَلاَّ إِنَّ كتاب الأبرار} [المطففين: 18] {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ} [المطففين: 15] {كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأرض} [الفجر: 21] {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى} [العلق: 6] {كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ} [العلق: 15] {كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ} [العلق: 19] [التكاثر: 3، 5] لأنه ليس للرد في ذلك، وأما القسم الرابع ففي موضعين {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 4] {ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} [النبأ: 5] فإنه لا حسن الوقف على ثم لأنه حرف عطف ولا على كلا لأن الفائدة فيما بعد، وقال بعضهم: إنه يحسن الوقف على كلًا في جميع القرآن لأنه بمعنى انته إلا في موضع واحد وهو قوله تعالى: {كَلاَّ والقمر} [المدثر: 32] لأنه موصول باليمين بمنزلة قولك أي وربي {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} أي سنظهر إنا كتبنا قوله كقوله:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ** ولم تجدي من أن تقري به بدًا

أي إذا انتسبنا علمت وتبين أني لست بابن لئيمة أو سننتقم منه انتقام من كتب جريمة الجاني وحفظها عليه فإن نفس كتبة ذلك لا تكاد تتأخر عن القول لقوله تعالى: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] وقوله سبحانه جل وعلا: {وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80] فمبنى الأول تنزيل إظهار الشيء الخفي منزلة إحداث الأمر المعدوم بجامع أن كلًا منهما إخراج من الكمون إلى البروز فيكون استعارة تبعية مبنية على تشبيه إظهار الكتابة على رؤوس الأشهاد بإحداثها ومدار الثاني تسمية الشيء باسم سببه فإن كتبة جريمة المجرم سبب لعقوبته قطعًا قاله أبو السعود، وقيل: إن الكتابة في المعنى الثاني استعارة للوعيد بالانتقام وفيه خفاء، وقال بعضهم: لا مجاز في الآية بيد أن السين للتأكيد، والمراد نكتب في الحال ورد بأن السين إذا أكدت فإنما تؤكد الوعد أو الوعيد وتفيع أنه كائن لا محالة في المستقبل.
وأما إنها تؤكد ما يراد به الحال فلا كذا قيل: فليراجع.
وقرأ الأعمش {سيكتب} بالياء التحتية والبناء للمفعول والبناء للمفعول وذكرت عن عاصم {يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدًّا} مكان ما يدعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد أي نطول له من العذاب ما يستحقه أو نزيد عذابه ونضاعفه له من المدد يقال: مده وأمده بمعنى، وتدل عليه قراءة علي كرم الله تعالى وجهه {وَنَمُدُّ} بالضم وهو بهذا المعنى يجوز أن يستعمل باللام وبدونها ومعناه على الأول نفعل المدله وهو أبلغ من نمده وأكد بالمصدر إيذانًا بفرط غضب الله تعالى عليه لكفره وافترائه على الله سبحانه واستهزائه بآياته العظام نعوذ بالله عز وجل مما يستوجب الغضب.
{وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} أي نسلب ذلك ونأخذه بموته أخذ الوارث ما يرثه، والمراد بما يقول مسماه ومصداقه وهو ما أوتيه في الدنيا من المال والولد يقول الرجل: أنا أملك كذا فتقول: ولي فوق ما تقول، والمعنى على المضي وكذا في {يقول} [مريم: 79] السابق، وفيه إيذان بأنه ليس لما قال مصداق موجود سوى ما ذكر، وما إما بدل من الضمير بدل اشتمال وإما مفعول به أي نرث منه ما آتيناه في الدنيا {وَيَأْتِينَا} يوم القيامة {فَرْدًا} لا يصحبه مال ولا ولد كان له فضلًا أي يؤتى ثمة زائدًا، وفي حرف ابن مسعود {وَنَرِثُهُ مَا عِندَهُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا لا مَّالِ لَهُ وَلاَ وَلَدًا} وهو ظاهر في المعنى المذكور، وقيل: المعنى نحرمه ما زعم أنه يناله في الآخرة من المال والولد ونعطيه لغيره من المستحقين، وروي هذا عن أبي سهل، وتفسير الإرث بذلك تفسير باللازم و{مَا يَقُولُ} مراد منه مسماه أيضًا والولد الذي يعطى للغير ينبغي أن يكون ولد ذلك الغير الذي كان له في الدنيا وإعطاؤه إياه بأن يجمع بينه وبينه حسبما يشتهيه وهذا مبني على أنه لا توالد في الجنة.
وقد اختلف العلماء في ذلك فقال جمع: منهم مجاهد وطاوس وإبراهيم النخعي: بعدم التوالد احتجاجًا بما في حديث لفيط رضي الله تعالى عنه الطويل الذي عليه من الجلالة والمهابة ونور النبوة ما ينادي على صحته، وقال فيه أبو عبد الله بن منده لا ينكره إلا جاحد أو جاهل، وقد خرجه جماعة من أئمة السنة من قوله: قلت يا رسول الله أولنا فيها أزواج أو منهن مصلحات؟ قال صلى الله عليه وسلم: «المصلحات للمصلحين تلذذونهن ويلذذنكم مثل لذاتكم في الدنيا غير أن لا تتوالد» وبما روي عن أبي ذر العقيلي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الجنة لا يكون لهم ولد» وقالت فرقة بالتوالد احتجاجًا بما أخرجه الترمذي في جامعه عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة كما يشتهي» وقال حسن غريب، وبما أخرجه أبو نعيم عن أبي سعيد أيضًا قيل يا رسول الله أيولد لأهل الجنة فإن الولد من تمام السرور؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «نعم والذي نفسي بيده وما هو إلا كقدر ما يتمنى أحدكم فيكون حمله ورضاعه وشبابه» وأجابت عما تقدم بأن المراد نفى أن يكون توالد أو ولد على الوجه المعهود في الدنيا. وتعقب ذلك بأن الحديث الأخير ضعيف كما قال البيهقي.
والحديث الأول قال فيه السفاريني: أجود أسانيده إسناد الترمذي وقد حكم عليه بالغرابة وأنه لا يعرف إلا من حديث أبي الصديق التاجي. وقد اضطرب لفظه فتارة يروى عنه إذا اشتهى الولد وتارة أنه يشتهي الولد وتارة إن الرجل من أهل الجنة ليولد له وإذا قلنا بأن له على الرواية السابقة سندًا حسنًا كما أشار إليه الترمذي فلقائل أن يقول: إن فيه تعليقًا بالشرط وجاز أن لا يقع، وإذا وإن كانت ظاهرة في المحقق لكنها قد تستعمل لمجرد التعليق الأعم.
وأما الجواب عن الحديثين السابقين بما مر فأوهن من بيت العنكبوت كما لا يخفى، وبالجملة المرجح عند الأكثرين عدم التوالد ورجح ذلك السفاريني بعشرة أوجه لكن للبحث في أكثرها مجال والله تعالى أعلم.
وقيل: المراد بما يقول نفس القول المذكور لا مسماه، والمعنى إنما يقول هذا القول ما دام حيًا فإذا فبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله ويأتينا رافضًا له مفرد عنه.
وتعقب بأن هذا مبني على صدور القول المذكور عنه بطريق الاعتقاد وأنه مستمر على التفوه به راج لوقوع مضمونه ولا ريب في أن ذلك مستحيل ممن كفر بالبعث وإنما قال ما قال بطريق الاستهزاء.
وأجيب بأنا لا نسلم البناء على ذلك لجواز أن يكون المراد إنما يقول ذلك ويستهزىء ما دام حيًا فإذا قبضناه حلنا بينه وبين الاستهزاء بما ينكشف له ويحل به أو يقال: إن مبنى ما ذكر على المجاراة مع اللعين كما تقدم.
قيل: المعنى نحفظ قوله لنضرب به وجهه في الموقف ونعيره به ويأتينا على فقره ومسكنته فردًا من المال والولد لم نوله سؤله ولم نؤته متمناه فيجتمع عليه أمران أمران تبعة قوله ووباله وفقد المطموع فيه، وإلى تفسير الإرث بالحفظ ذهب النحاس وجعل من ذلك {العلماء وَرَثَةِ الأنبياء} أي حفظة ما قالوه، وأنت خبير بأن حفظ قوله قد علم من قوله تعالى: {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ}.
وفي (الكشاف) يحتمل أنه قد تمنى وطمع أن يؤتيه الله تعالى مالًا وولدًا في الدنيا وبلغت به أشعبيته أن تألى على ذلك فقال سبحانه هب أنا أعطيناه ما اشتهاه أما نرثه منه في العاقبة ويأتينا غدًا فردًا بلا مال ولا ولد كقوله تعالى: {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى} [الأنعام: 94] فما يجدي عليه تمنيه وتأليه انتهى، ولا يخفى أنه احتمال بعيد جدًا في نفسه ومن جهة سبب النزول، والتكلف لتطبيقه عليه لا يقر به كما لا يخفى و{فَرْدًا} حال على جميع الأقوال لكن قيل: إنه حال مقدرة حيث أريد حرمانه عن المال والولد وإعطاء ذلك لمستحقه لأن الانفراد عليه يقتضي التفاوت بين الضال والمهتدي وهو إنما يكون بعد الموقف بخلاف ما إذا أريد غير ذلك مما تضمنته الأقوال لعدم اقتضائه التفاوت بينهما وكفاية فردية الموقف في الصحة وإن كانت مشتركة. وزعم بعضهم أن الحال مقدرة على سائر الأقوال لأن المراد دوام الانفراد عن المال والولد أو عن القول المذكور والدوام غير محقق عند الإتيان بل مقدر كما في قوله تعالى: {ادخلوها خالدين} [الزمر: 73] ولا يخفى ما فيه.
{واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً}.
حكاية لجناية عامة للكل مستتبعة لضد ما يرجون ترتبه عليها إثر حكاية مقالة الكافر المعهود واستتباعها لنقيض مضمونها أي اتخذ الكفرة الظالمون الأصنام أو ما يعمهم وسائر المعبودات الباطلة آلهة متجاوزين الله تعالى: {لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزًّا} أي ليتعززوا بهم بأن يكونوا لهم وصلة إليه عز وجل وشفعاء عنده.
{كَلاَّ} ردع لهم وزجر عن ذلك، وفيه إنكار لوقوع ما علقوا به أطماعهم الفارغة {سَيَكْفُرُونَ بعبادتهم} أي ستجحد الآلهة عبادة أولئك الكفرة إياها وينطق الله تعالى من لم يكن ناطقًا منها فتقول جميعًا ما عبدتمونا كما قال سبحانه: {وَإِذَا رَءا الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لكاذبون} [النحل: 86] أو ستنكر الكفرة حين يشاهدون عاقبة سوء كفرهم عبادتهم إياها كما قال سبحانه: {لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23].
ومعنى قوله تعالى: {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} على الأول على ما قيل تكون الآلهة التي كانوا يرجون أن تكون لهم عزًا ضدًا للعز أي ذلًا وهوانًا أو أعوانًا عليهم كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو أظهر من التفسير السابق، وكونهم أعوانًا عليهم لأنهم يلعنونهم، وقيل: لأن عبادتهم كانت سببًا للعذاب.
وتعقب بأن هذا لم يحدث يوم القيامة وظاهر الآية الحدوث ذلك اليوم والأمر فيه هين، وقيل: لأنهم يكونون آلة لعذابهم حيث يجعلون وقود النار وحصب جهنم وهذا لا يتسنى إلا على تقدير أن يراد بالآلهة الأصنام، وإطلاق الضد على العون لما أن عون الرجل يضاد عدوه وينافيه بإعانته له عليه، وعلى الثاني يكون الكفرة على الآلهة أي أعداء لها من قولهم: الناس عليكم أي أعداؤكم، ومنه اللهم كن لنا ولا تكن علينا ضدًا أي منافين ما كانوا عليه كافرين بها بعدما كانوا يعبدونها فعليهم على ما قيل خبر يكون، {وضدًا} حال مؤكدة والعداوة مرادة مما قبله، وقيل: إنها مرادة منه وهو الخبر و{سَوَاء عَلَيْهِمْ} في موضع الحال، وقد فسره بأعداء الضحاك وهو على ما نقل عن الأخفش كالعدو يستعمل مفردًا وجمعًا.
وبذلك قال صاحب القاموس وجعل ما هنا جمعًا، وأنكر بعضهم كونه مما يطلق على الواحد والجمع، وقال: هو للواحد فقط وإنما وحد هنا لوحدة المعنى الذي يدور عليه مضادتهم فإنهم بذلك كالشيء الواحد كما في قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه النسائي وهم يد على من سواهم، وقال صاحب الفرائد: إنما وحد لأنه ذكر في مقابلة قوله تعالى: {عِزًّا} [مريم: 81] وهو مصدر يصلح لأن يكون جمعًا فهذا وإن لم يكن مصدرًا لكن يصلح لأن يكون جمعًا نظرًا إلى ما يراد منه وهو الذل، وهذا إذا تم فإنما يتم على المعنى الأول، وقد صرح في (البحر) أنه على ذلك مصدر يوصف به الجمع كما يوصف به الواحد فليراجع.
وقرأ أبو نهيك هنا وفيما تقدم {كَلاَّ} بفتح الكاف والتنوين فقيل إنها الحرف الذي للردع إلا أنه نوى الوقف عليها فصار ألفها كألف الإطلاق ثم أبدلت تنوينًا، ويجوز أن لا يكون نوى الوقف بل أجريت الألف مجرى ألف الإطلاق لما أن ألف المبنى لم يكن لها أصل ولم يجز أن تقع رويًا ويسمى هذا تنوين الغالي وهو يلحق الحروف وغيرها ويجامع الألف واللام كقولك:
أقلي اللوم عاذل والعتابن ** وقولي إن أصبت لقد أصابن

وليس هذا مثل {قَوَارِيرَاْ} [الإنسان: 15] كما لا يخفى خلافًا لمن زعمه.
وفي محتسب ابن جني أن {كَلاَّ} مصدر من كل السيف إذا نبا وهو منصوب بفعل مضمر من لفظه، والتقدير هنا كل هذا الرأي والاعتقاد كلا، والمراد ضعف ضعفًا، وقيل: هو مفعول به بتقدير حملوا {كَلاَّ} ويقال نظير ذلك فيما تقدم، وقال ابن عطية: هو نعت لآلهة، والمراد به الثقيل الذي لا خير فيه والإفراد لأنه بزنة المصدر وهو كما ترى، والأوفق بالمعنى ما تقدم وإن قيل فيه تعسف لفظي وإنه يلزم عليه إثبات التنوين خطا كما في أمثال ذلك.
وحكى أبو عمرو الداني عن أبي نهيك أنه قرأ {كَلاَّ} بضم الكاف والتنوين وهي على هذا منصوبة بفعل محذوف دل عليه {سَيَكْفُرُونَ} على أنه من باب الاشتغال نحو زيدًا مررت به أي يجحدون كلا أي عبادة كل من الآلهة ففيه مضاف مقدر وقد لا يقدر.
وذكر الطبري عنه أنه قرأ {كُلٌّ} بضم الكاف والرفع وهو على هذا مبتدأ. والجملة بعده خبره.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين}.
قيضناهم وجعلناهم قرناء لهم مسلطين عليهم أو سلطناهم عليهم ومكناهم من إضلالهم {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} تغريهم وتهيجهم على المعاصي تهييجًا شديدًا بأنواع التسويلات والوساوس فإن الأز والهز والاستفزاز أخوات معناها شدة الإزعاج، وجملة {تَؤُزُّهُمْ} إما حال مقدرة من الشياطين أو استئناف وقع جوابًا عما نشأ من صدر الكلام كأنه قيل: ماذا تفعل الشياطين بهم؟ فقيل تؤزهم إلخ.
والمراد من الآية تعجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم مما تضمنته الآيات السابقة الكريمة من قوله سبحانه: {وَيَقُولُ الإنسان أَإِذَا مَا مِتُّ} [مريم: 66] إلى هنا وحكته عن هؤلاء الكفرة الغواة والمردة العتاة من فنون القبائح من الأقاويل والأفاعيل والتمادي في الغي والانهماك في الضلال والإفراط في العناد والتصميم على الكفر من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم والإجماع على مدافعة الحق بعد إيضاحه وانتفاء الشرك عنه بالكلية وتنبيه على أن جميع ذلك بإضلال الشياطين وإغوائهم لا لأن هناك قصورًا في التبليغ أو مسوغًا في الجملة، وفيها تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهي تذييل لتلك الآيات لما ذكر.
وليس المراد منها تعجيبه عليه الصلاة والسلام من إرسال الشياطين عليهم كما يوهمه تعليق الرؤية به بل مما ذكر من أحوالهم من حيث كونها من آثار إغواء الشياطين كما ينبىء عن ذلك قوله سبحانه: {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}.
{فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} بأن يهلكوا حسبما تقتضيه جناياتهم ويبيد عن آخرهم وتطهر الأرض من خباثاتهم، والفاء للإشعار بكون ما قبلها مظنة الوقوع المنهي عنه محوجة إلى النهي كما في قوله تعالى: {إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة} [طه: 117].
وقوله تعالى: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} تعليل لموجب النهي ببيان اقتراب هلاكهم فإنه لم يبق لهم إلا أيام وأنفاس نعدها عدًا أي قليلة كما قيل في قوله تعالى: {دراهم مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] ولا ينافي هذا ما مر من أنه يمد لمن كان في الضلالة أي يطول لأنه بالنسبة لظاهر الحال عندهم وهو قليل باعتبار عاقبته وعند الله عز وجل، وقيل: إن التعليل بما ذكر دل أن أنفاسهم وأيامهم تنته بانتهاء العد ولا شك أنها على كثرتها يستوفي إحصاؤها في ساعة فعبر بهذا المعنى عن القليل فكأنه قيل: ليس بينك وبين هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة كأنها في سرعة تقضيها الساعة التي تعد فيها لوعدت، وهذا ليس مبنيًا على أن كل ما يعد فهو قليل انتهى، والأول هو الظاهر وهذا أبعد مغزى، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: آخر العدد خروج نفسك آخر العدد فراق أهلك آخر العدد دخول قبرك، وعن ابن السماك أنه كان عند المأمون فقرأها فقال: إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد ولله تعالى در من قال:
إن الحبيب من الأحباب مختلس ** لا يمنع الموت بواب ولا حرس

وكيف يفرح بالدنيا ولذتها ** فتى يعد عليه اللفظ والنفس

وقيل: المراد إنما نعد أعمالهم لنجازيهم عليها. اهـ.